قال الله تبارك وتعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (85)} الآية [سورة الأعراف].
نَسَبُهُ
قيل هو من ذرية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل هو ابن بنت نبي الله لوط، وقيل غير ذلك، وإن أمّه بنت لوط، وهو من الأنبياء العرب لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عند ذكر الأنبياءِ والرسل :"أربعة من العرب: هودٌ وصالح وشعيب ونبيُّك يا أبا ذر"، رواه ابن حبان.
وكان مشهورًا بالفصاحة وعلوّ العِبارة، وببلاغته في دعوة قومِه إلى الإيمان والإسلام.
عدد مرات ذكره عليه السلام في القرءان الكريم
ذُكر نبيُّ الله شعيب عليهِ الصلاة والسلام في القرءان عشرَ مرات، في سُورة الأعراف وفي سورةِ هود وفي سورةِ الشُّعراء وفي سورة العنكبوت.
قبيلة مدين ومكان إقامتهم
كان أهل مدين قومًا عربًا يسكنون في بلاد الحجاز مما يلي جهة الشام قريبًا من خليج العقبة من الجهة الشمالية، ومدينتهم "مَدْين" كانت قريبةً من أرض مَعان من أطراف الشام وهي قريبة من بُحيرة قوم لوط وكانوا بَعدهم بمدة قريبة لقوله تعالى حكاية عن نبيه شعيب: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [سورة هود]، ومَدين قبيلة عُرفت بهم وهم من بني مَدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وكانوا على دين إبراهيم ـ الإسلام ـ الذي هو دين جميع الأنبياء ولكنه لم يَطُل بهم العهد حتى غيّروا دينَهمُ الحق وكفروا بالله وعبدوا غيرَ الله، وانحرفوا عن الصراط المستقيم فغرتهم الحياة الدنيا ومتاعُها الفاني، فقد كانوا أصحابَ تجارة وسلع وكانوا على الجادة التجارية الكبيرة بين اليمن والشام وبين العراق ومصر على ساحل البحر الأحمر ولكنَّ حبَّ المال سيطر على قلوبهم وأعْماهم عن اتباع الحق، فقد كانوا يعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك حَوْلها غِيْضة وهي أشجار ملتفة على بعضها، وزيادة على كفرهم وضلالهم فقد كانوا ينقصون المكيال والميزان ويُطففون فيهما، أي يأخذون مع الزيادة ويدفعون مع النقصان ويأكلون المال الحرام. ولم يكتفوا بهذه المُعاملة السيئة بل كانوا يقطعون الطريق على المارة، ويتعرضون للقوافل فيتوعدونها ويُخيفونها ويَعيثون في الأرض فَسَادًا.
إرسال نبي الله شُعيب إلى قبيلة مدين ودعوته قومه إلى دين الإسلام
وَسَط هذا المجتمع الفاسد والكفر والضلال الذي كانت تعيش فيه قبيلة مدين حيث كانوا يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون، بَعَث الله فيهم رَجلاً منهم هو رسولُ الله شعيبٌ عليه الصلاة والسلام فدعاهم إلى دين الإسلام وعبادةِ الله وحده لا شريك له لأنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره، ونهاهم عليه السلام عن المفاسد والأفاعيل القبيحة التي كانوا واقعين فيها، وأمرهم بالعدل والميزان بالقسط وأن لا يبخسوا الناس حقُوقهم، وأن لا يقطعوا الطرق على المارة ويأخذوا أموال الناس بالباطل.
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [سورة هود].
دعوة شعيب قومه إلى الإسلام
دَعا نبيُّ الله شعيبٌ عليه السلام قومَه إلى عبادة الله وحده وترك عبادةِ غير الله ونهاهُم عن الظلم والفساد وأخذ أموال الناس بالباطل عن طريق النقص في المكيال والميزان، ولكن لم يؤمن بدعوته إلا العدد القليل من قومه مع أَنهم كانوا في بُحبوحة العيش والرزق، فقد بسط الله عليهم الرزق في عيشهم استدراجًا منه لهم وابتلاءً مع كفرهم بالله سبحانه وتعالى وعَدَمِ شُكرهم لله على ما أعطاهم ورَزَقهم من النعم الوفيرة. وقد بيّن لهم نبيّهُم وذكّرهم بما وَسَّع الله عليهم من الخير والرزق عَلَّهم يَقبلون دَعوتَه فيعبدون الله وحده ولا ينقصون المكيال والميزان وينتهون عن الفساد في الأرض، قال الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)} [سورة الأعراف].
فأمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم من أجل حب المال وتكثيره، وتوعّدهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم إن هم استمروا على كفرهم بالله ولم يؤمنوا بدعوته واستمروا على ظلم الناس وأخذهم أموالهم بالباطل وقطعهم الطرق على المارة فقال لهم:{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ(86)} [سورة الأعراف] أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم وبذلك تخيفون المارة وتُرعبونهم، وحذرهم نبيُّ الله عن صدّ الناس عن الإيمان وإيذاء المؤمنين مع هذا الفساد في الأرض الذي كانوا يمارسونه والجرائم التي كانوا يرتكبونها، قال تعالى إخبارًا عن نبيه عليه السلام فيما نهى عنه قومه وحذرهم: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)} [سورة الأعراف].
فقد ذكّرهم شعيبٌ عليه السلام نعمةَ الله عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذّرهم نقمة الله بهم وعذابَه الأليم الذي ينتظرهم في الدنيا والآخرة إنْ هم خالفوا أمره واستمروا على ضلالهم وبذلك يخسرون الدنيا والآخرة ويَبوءون بالصَفقة الخاسرة، وذلك هو الخُسران المُبين.
وأخذ نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام يبسط لقومه في الكلام وهو يدعوهم للمعروف وينهاهم عن المنكر والفساد فأراد أن يخرجهم من التعلق بالدنيا وزخارفها ويُبينَ لهم أن أخذ المال وجمعه بالحلال خير لهم من أخذه بالظلم والخيانة وبطرق الحرام فقال لهم برفق وحكمة: {بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)} [سورة هود] أي ما يفضُلُ لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم إن كنتم مؤمنين من أخذ أموال الناس بالتطفيف والظلم والخيانة.
والقليل من الحلال الطيب خير من الكثير من الحرام الخبيث، وذلك لأن الحلال مُباركٌ فيه وإن قلّ، والحرام مَمحوقٌ لا بَرَكة فيه وإن كثر، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ(276)} [سورة البقرة]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قُلٍّ" أي إلى قلة، رواه أحمد.فأراد شعيب عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أنه ناصحٌ لهم فيما دعاهم إليه ونصيحته إليهم خالصة لله وما هو عليهم بحفيظ، وأما الله تبارك وتعالى فهو الرقيبُ عليهم في جميع تصرفاتهم وأعمالهم العليم بأحوالهم لا تخفى عليه خافية لأنه هو الذي خلقهم، قال تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [سورة هود].
جواب قومه وكيف واجهوا دعوته
واجه قوم شعيب دعوته عليه الصلاة والسلام بعد كل هذه المحاولات والنصائح بالسخرية والاستهزاء وعدم الاستجابة لدعوته والتكبر عن اتباع الحق وقالوا له على سبيل التهكم والاستهزاء: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [سورة هود]. أي أَصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن نتركَ ما كان يعبد ءاباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون ونعبدَ الله وحده، وألا نتعاملَ في أموالنا كيف نشاء وكما نريد فنترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها، وهذا مُنتهى السَّفَه والعمى والتكبر عن اتباع الحقّ الذي جاء به نبيُّ الله شعيب عليه الصلاة والسلام وأمر قومه باتباعه، حتى إنّ قومه الخبثاء قالوا له على وجه الاستهزاء والسخرية {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} وإزاء هذا الاستهزاء والعناد والضلال الذي واجه به قومُ مَدين نبيَّهم شعيبًا عليه السلام استمر نبيُّ الله شعيب يَدْعوهم إلى الحق والهدى بأبين إشارة وبالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [سورة هود].
ثم انتقل نبيُّ الله شعيب في دعوته لقومه إلى نَوع ءاخر من الترهيب فقال لهم: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [سورة هود].
أي لا يحملنّكم مُخالفتي وبغضُكم ما جِئتُكم به على الاستمرار على ضلالكم ومخالفتكم لما جئتكم به من الهدى والحق، فيُحلُّ الله بكم العذاب والنكال نظيرَ ما أحله بأمثالكم وأَشباهِكُم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذّبين لأنبيائهم. ثم قال لهم { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [سورة هود] معناه في الزمان أي لقد بلغكم ما حلَّ بقوم لوط الذين كذبوا نبيَّهم لوطًا عليه السلام جزاءً لكُفرهم وعُتُوّهم وتكبرهم عن اتباع نبيّهم لوط، ثم رغّبهم بالتوبةِ إلى اللهِ بالدخول في دين الإسلام فقال لهم :{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [سورة هود] أي أقلعُوا عما أنتم فيه من الكفر وعبادة غير الله وادخلوا في دين الإسلام وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إلى الله تاب عليه فإنه رحيم بعباده وهو الودود الذي يحبُّ عباده المؤمنين ويحبه عبادُه المؤمنون.
فائدة: إنّ قول شعيب لقومه {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الآية [سورة هود] ليس المقصود به أن يقولوا "أستغفر الله" لتقبلَ توبتُهم عند الله، وإنما المعنى: ادخلوا في دين الإسلام ليغفر لكم الكفر، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} بَيَّنت هذه الآية أن استغفار الكافر أن يقلع عن كفره فيؤمن بالله ورسوله لأن قول "أستغفر الله" لا ينفع مع الكفر بل يزيده كفرًا لأن معنى قوله "أستغفر الله" تكذيب لله لأن الله أخبر في القرءان بأنه لا يغفر للكافر ما دام على كفرهِ لأن توبةَ الكافر تكون بالدخول في دين الإسلام ولا تكون بقول أستغفر الله، يقول تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (38)} الآية [سورة الأنفال].
استمرار قوم شعيب على ضلالهم وتجاهلهم دعوةَ نبيّ الله وتهديده بالقتل
رغم المحاولات العديدة والأساليب المختلفة التي بذلها نبي الله شعيب في دعوة قومه إلى الدين الحق وترك المنكرات والقبائح التي كانوا يفعلونها، تجاهل قومُه الخبثاء دعوتَه واستمروا على جهلهم وضلالِهم وكفرهم وردوا عليه بالسخرية والاستهزاء.
قال الله تبارك وتعالى إخبارًا عن قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)} [سورة هود].
ويُشبهُ هذا الذي ردُّوا به على نبيهم ما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (5)} الآية [سورة فصلت].
ولم يكتفوا باستكبارهم عن اتباع الحق الذي جاء به نبيّهم بل واجهوه بأنَّهم لولا عشيرته وقبيلته لرجموه بالحجارة حتى القتل وتخلصوا منه، فقال لقومه: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)} [سورة هود] أي أتخافون من قبيلتي وعشيرتي وتراعونني بسببهم وخوفًا منهم ولا تخافون عذاب الله! وجعلتم أمر الله وراء ظهوركم لجهلكم وتكبركم! والله سبحانه عليم بما تعملونه لا يخفى عليه شىء، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم القيامة.
إهلاك قوم شعيب وسوء عاقبتهم
تَمادَى قوم نبيّ الله شعيب عليه الصلاة والسلام في غَيّهم وضَلالهم، واستمروا على عنادهم في تكذيب نبيّهم وردّ دعوته، ولم يردّهم تذكير نبيّهم شعيب ونصيحتهم عن بَغيهم وظُلمهم وتكبرهم، بل إنَّهم استمروا على تكذيبه واستهزءوا بما توعّدهم به من العذاب الأليم، فإنَّهم قالوا له: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)} [سورة الشعراء]، {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)} [سورة الأعراف].
ولَمَّا رأى نبيُّ الله شعيب عليه الصلاة والسلام عناد قومه وتصميمهم على تكذيبه وردِّ دعوته، عند ذلك استفتح على قوْمه واستنصرَ ربَّه عليهم في تعجيل ما يستحقونه من العذاب، ودَعَا الله مُجيبَ الدعوات عليهم فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [سورة الأعراف].
فأنزل الله القويُّ المتين العذابَ الشديدَ على قوم شعيب وجعلهم عبرةً لمن اعتبر، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)} [سورة الأعراف] أي رجفت بهم أرضهم وزُلزِلت بمشيئة الله وقدرته زلزالاً شديدًا أزهقت أرواحهم من أجسادهم وصيَّرتْ حيوان أرضهم كجمادها، وأصبحت جُثَثهُم جاثيةً لا أرواح فيها ولا حركات ولا حواس، ولقد جمع الله العزيز المنتقم على قوم شعيب الذين كذَّبوا نبيَّه وءاذوه أنواعًا من العقوبات وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات ولما صمَّموا عليه من أنواع الكفر والضلال، فقد سَلَّطَ الله عليهم رجفةً شديدة أسكنت حركاتهم، وصيحة عظيمة أخمدت أصواتهم، وظُلّةَ سحابٍ أرسل عليهم منها شرر النار المُلتهبة في سائر جهاتهم فأهلكوا جميعهم، يقول الله عز وجل:{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} [سورة الشعراء] وذلك أنهم أصابهم حرٌّ شديد وأسكن اللهُ هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعُهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة فوجدوا لها بَردًا ولذة فنادى بعضهم بعضًا، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلمّا تكاملوا فيها أرسلها اللهُ العزيز القوي عليهم تَرْميهم بِشَررٍ وشُهُب، ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة قوية من السماء فأزهقت أرواحهم، والله عزيز ذو انتقام، يقول تعالى في محكم تنزيله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [سورة هود].
ونجّى الله تبارك وتعالى نبيه وحبيبَه شعيبًا عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين ونصرهم على القوم الكافرين يقول تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)} [سورة غافر].
وأَعرض نبيُّ الله شعيب عليه الصلاة والسلام عن قومه بعد أن أهلكهم الله بهذا العذاب الأليم، ونعاهم إلى أنفسهم مُوَبِّخًا ومُؤنبًا ومقرّعًا قال الله تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} [سورة الأعراف] المعنى لقد أديتُ ما كان واجبًا عليّ من البلاغ التام والنصح الكامل، وحَرَصتُ على هدايتكم بكل ما أقدر عليه فلم تنتفعوا بذلك، ولستُ أتأسف وأحزن بعد هذا عليكم، ذلك لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة.
وفاة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام
وقد عاش سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام مُدةً من الزمن بعد هلاك قومه بعد أن أدى الأمانة وبلّغ ما أمره الله بتبليغه، وجاهد في الله حق جهاده، ومات عليه الصلاة والسلام في الأردن ودفن فيها وقبره هناك في وادٍ يسمى اليوم بوادي شعيب، وهو مَقامٌ معروفٌ ومشهور هناك، ويقال إنه مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم. والله أعلم.